مهنة الديسك عار على الصحافة والصحفيين
مهنة الديسك عارُ على الصحافة المصرية والعربية، فالصحفي فاقدٌ للأهلية، ولا يمكن الاعتماد عليه، لإخراج موضوع مكتمل بمفرده، كطفلٍ صغيرٍ -غير مفطوم- يظلّ طول الوقت في حاجة إلى رعاية ماما!
ما يحدث في قطاع الصحافة لا يوجد له مثيل في العالم، الصحفي في الخارج راشدٌ بما يكفي ليكتب موضوعًا مكتملا ومستوفيا للشروط الفنية واللغوية، وإضافة لهذا فهو يلتقط صورًا وينتج فيديو، وربما "يمنتجه" أيضًا، أما هنا، فحدّث ولا حرج عن صحفي لا يعرف الفارق بين البروفايل والتحقيق ومقال الرأي، لا يمكنه التمييز بين مقدمة الموضوع وذيله، لم يسمع يومًا عن أسلوب الهرم المقلوب في الكتابة الصحفية، والخمسة أسئلة التي يجيب عنها الخبر، لم يلقّنه أحد أن المبتدأ –والخَتْمة الشريفة!- لا بدّ له من خبر، وأن "كان" ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، و"إنّ" عكسها، على طول الخط، ولا يمكن لإحداهما أن تُمسك "شيفتا" مكان الأخرى!
صحفي لا يعرف جمال حمدان، ولم يقرأ نجيب محفوظ، ولم يمرّ يوما على أي كتاب لمحمد حسنين هيكل، ويعتقد يقينا أن أمل دنقل شاعرة!
صحفي لا يجيد اختيار موضوعه، وإذا اختاره، لا يُتقن وضع عنوان له، وإذا وضعه، جاء مليئًا بجميع أنواع الأخطاء، من الإملاء للنحو للأسلوب، وصولا للصحفي البرنس –حلقة الوصل المفقودة في تاريخ التطور الإنساني!- الذي أصرّ يومًا أن يضع "نقطة" في العنوان الرئيسي، وعندما رفضتُ ذلك، سألني متعجبًا: أهذا الأمر خاص بموقعنا فقط، أم أنه أمر شائع في الصحافة كلها؟ فلم أجبه، احترامًا لكلام أمي التي أوصتني ألا أسبّ الدين لأحد.
صحفي لا يعرف نوعية جمهوره، ولا اللغة المناسبة لهم، لا يتعلّم من أخطائه، ولا يستثمر العمر الطويل والخبرة في ترقية مهاراته، ولا يفهم أن البقاء للأصلح، وليس لحامل كارنيه النقابة!
واتقاءً لسهام الشك والتخوين وبيعت ضميرك مقابل كام وجبة كنتاكي، فإني أقول إن هذا حال بعض الصحفيين وليس كلهم، لكن للأسف، فإن هذا "البعض" يتعملق كل يوم، ويستفحل، حتى يكاد يلتهم المهنة بأكملها!
ومن أجل هؤلاء "البعض" خلق الله مهنة اسمها محرّر الديسك!
ومحرّر الديسك -لمن لا يعرف- هو الخادمة التي اشتراها رئيس التحرير لصحفييه، والمسؤول الأول عن وضع "الميكب" لموضوعاتهم، وغسيل ملابسهم المتّسخة، وتبييضها، وصولا لنشرها في أبهى صورة، محرّر الديسك هو آخر ورقة توت تستر العمل الصحفي في مصر.
وهو جندي مجهول، يعمل خلف الكواليس، يُدقّق الخبر، ويوثّق معلوماته، ويُحسّن صياغته، ويصوّب أخطاءه الإملائية والنحوية والأسلوبية، ويضع له عناوين رئيسية وفرعية، ويرفعه على "السيستم"، ويختار له الكلمات المفتاحية، والموضوعات المرتبطة، والصور، وينشره، وربما يُطلب منه في بعض الأحيان أن "يرشّ" المياه أمام الموقع!
وعلى مُحرّر الديسك أن يكون واسع الصدر، و"مخاويّا"، وخاليًا من أمراض القلب وارتفاع ضغط الدم، وذا مرارة سليمة متكلّفة، ويملك بلورة سحرية، كي يتمكّن من فك طلاسم ما يكتبه الصحفيون، فهو يعمل بالنيّة أكثر، ويتحرّك بالخيال، ويرى ما في ضمير المحرر الذي لم يستطع التعبير عنه بالكلمات!
وإلا بالله عليك كيف يمكن أن يفهم أن المحرر عندما يقول (وقال المتوفّى، المتحدث الرسمي باسم قرية كذا..) فهو يقصد ابن المتوفّى وليس المتوفى نفسه؟!
وكيف له أن يستنتج أن المحرر عندما يقول (وتمّت سرقة جميع التبالت)، فإنه يقصد أجهزة التابلت، ولم يجد أفضل من تبالت، كي يجمعها عليها.
ألم أقل لك إن البلورة السحرية من ضروريات العمل الصحفي هذه الأيام؟!
حسنا.. هل أفتح هذا الموضوع الشائك من أجل سواد عيون محرر الديسك؟
لا، فله ربٌ كريمٌ، مطّلعٌ وعالِمٌ بما يجري، وسوف يعوضّه في الحياة الآخرة، عما يلقاه في الحياة الدنيا "ما هي مش هتبقى دنيا وآخرة!"، لكني أفعل هذا، من أجل خاطر الصحفي الذي يقبل أن "يعلّم" عليه صحفي الديسك، ويغيّر موضوعه تمامًا، ويفرض شخصيته عليه، وهو –الصحفي- مبسوط وبرنس في نفسه ويحسب أنه يُحسن صنعًا!
فالديسك لا يتدخّل بهذه القوة إلا مضطرًا، ولو وجد مستوى مقبولا لن يبذل مجهودًا، ويشطب ويُحلّ كلمات مكان أخرى ويرفع وينصب ويبني، على العكس، لربما أقام فرحًا، ورقص "عشرة" بلدي.
لكن وجود الديسك –للأسف- منح الصحفي براحًا، وجعله لا يهتم بتجويد موضوعاته، ما دام هناك عبدٌ أسودٌ سوف يعمل وراءه، ويُصلح ما أفسده، ويجمّل ما قبّحه، دون أن ينازعه ملكية الموضوع، أو يطالب بوضع اسمه معه، تحت الرعاية الكاملة والتشجيع المطلق من رئيس التحرير، الذي يقبل مستوى رديئا من الصحفيين، ولا يحاسبهم عليه، ويرحّب بأعشار الموهوبين وخريجي الجامعات والبنات الحلوة، دون أن يهتم بتدريبهم بقرش صاغ، لتوفير النفقات وزيادة عدد الأخبار في "اللمون"، ثم ّيشدّ السيف على رقبة الديسك، ويطلب منه إحالة الزفت ورائحة "الشرَابات" القديمة وعيش الغراب العفن إلى سيمون فيميه وفاهيتا وعصير فراولة بالموز!
لذا أدّعي أن حال الصحافة في مصر لن يتحسّن، ولن يصلب عوده، ويشبّ عن الطوق، إلا إذا اختفت مهنة محرّر الديسك تمامًا –أو تغيّرت طبيعة عمله على الأقل- وأصبح الصحفي، صحفيًا حقيقيًا، يعرف ما له وما عليه، ويسعى طول الوقت لتطوير نفسه، واكتساب مهارات جديدة، وتقديم نفسه في أبهى صورة ممكنة، وإلا إذا فهم رؤساء التحرير هذه المعادلة البسيطة: "اللي تمنه قرش، بيسوى قرش، واللي تمنه 5 تلاف جنيه، يسوى 5 تلاف جنيه، فالخبرة لها ثمن، وليس الذي تعب واجتهد ومقّق عينيه حتى وصل، كالذي نزل بالبراشوت من مكتب فلان بيه وعلانة هانم، والبقاء والبصمة والتاريخ، على المدى الطويل، للأصلح فعلا".
في كتابه حرفة الصحافة يروي الأستاذ محمد عبد اللاه قصة زيارته لصحيفة الواشنطن بوست، عام 1986، بصحبة صحفيين مصريين، وجّه أحدهم سؤالا لمرافقهم، وكان نائب مدير تحرير الصحيفة، قال له: أين قسم إعادة الصياغة؟
فأجاب نائب مدير التحرير: ولماذا يجب أن يكون عندنا قسم كهذا؟
فرد أحد الزائرين: لإعادة إنتاج خبر مكتوب بغير القواعد السليمة، أو كتابة عنوان أفضل للخبر، أو إضافة معلومات يجب إضافتها، أو تصحيح خطأ لغوي وقع فيه الكاتب.
فردّ الصحفي الأمريكي بحسم: أي صحفي لا يؤدي هذه الواجبات كاملة، لا يعمل في الواشنطن بوست.
منقول بتصرف..
تعليقات
إرسال تعليق